الأربعاء، 23 سبتمبر 2009

الصفحة الثانية




هل نحن أمة واحدة؟


أحمد محمد أحمد

اختلفت النخب الفكرية والعلمية حول تعريف معنى الأمة وحول عناصر وجودها ومقومات بنائها، فمنهم من اعتبر الأمة نسبا عرقيا وان تعددت الألسن والألوان، ومنهم من اعتبر اللغة أساس وجود الأمم وان تباعدت أماكن الوجود والاستيطان، ومنهم من كان أكثر تحررا من عقدة اللغة واللسان والنسب، واعتبر أن العيش المشترك في منطقة جغرافية واحدة، ذات إرث ثقافي جامع يصلح لأن يكون أساسا تبنى عليه الأمم مهما اختلفت الألسنة والألوان والأنساب، أما رجال الدين فقد أجمعوا على اعتبار أتباعهم امة واحدة.
وأمام هذه الاختلافات في التعاريف الفكرية والفلسفية، برهن أصحاب العلوم الإنسانية الحديثة على أن أبناء الجنس البشري كافة يحملون نفس المواصفات البايلوجية، على الرغم من تميز كل فرد منهم عن غيره في بصمة الإبهام وفي التصرفات الفردية، التي تعود إلى البيئة الجغرافية والموروث الثقافي لكل مجموعة بشرية محددة، كما اتفق أصحاب الاختصاصات العلمية كافة على أن أبناء الجنس البشري كافة يختلفون عن سائر الكائنات الحية التي انقرضت أو تلك التي لا تزال تعيش على هذا الكوكب الأرضي، فهم جنس واع مدرك خلاق، ولا يصل إلى مستواهم العقلي والمعرفي أي جنس من الأجناس!
فإذا كانت الإنسانية الواحدة حقيقة موجودة على الأرض، ولا ينكر وجودها عاقل، فإن وعيها لذاتها وقدرتها على تنظيم وجودها وإشاعة العدل والمساواة بين أفرادها هو الذي تأخر ظهوره..القضية إذن قضية تسمية، إذ لا خلاف على أننا جنس واحد، لكن الخلاف على أن نكون أمة واحدة أو أمما شتى، الخلاف على الإرادة والوعي!
الإرادة والوعي يدل عليهما وجود نداءين يترددان في نفس كل فرد من أبناء هذا الجنس الواحد...أحدهما مصدره السماء وثانيهما مصدره الأرض:
أ- نداء السماءكان الخطاب الديني الذي جاءت به الرسالات السماوية أول خطاب تعامل مع أبناء الجنس البشري على أنهم أمة واحدة، وينتسبون إلى أب واحد وأم واحدة، وأنهم، مع اختلاف أنسابهم وأعراقهم وألوانهم، متساوون في الحقوق والواجبات أمام الخالق في الآخرة وأمام الشرائع السماوية المطلوب تطبيقها على الأرض.
إلا أن أتباع هذه الرسالات السماوية حرفوا مفاهيمها وقيمها الإنسانية الرفيعة فيما بعد، وجعلوا من أنفسهم أمة مفضلة على غيرها من الأمم والشعوب، وأوجبوا على أنفسهم وأتباعهم حكم العالم والسيطرة عليه و(هدايته) إلى طريقهم الصحيح بكل وسيلة ممكنة، حتى لو تناقضت مع أصل الرسالة السماوية ونبل أهدافها، فمنهم من أغلق (أصلا) باب رسالته على سلالته، وجعلها ملكا صرفا لها لا يجوز الاقتراب منه، كاليهود الذين أدعوا أنهم شعب الله المختار، وأنهم أمة فوق الأمم والشعوب الأخرى، وان الله أعطاهم صلاحيات وامتيازات في الأرض والسماء!
ومنهم من حرق العلماء والمفكرين المتنورين من أبناء الإنسان باسم السماء، كرهبان الكنيسة المسيحية، الذين حشدوا تحت راية الصليب كل الدموية والعدوانية، وقمعوا باسم يسوع المسيح كل فكرة علمية تحررية، بينما اجتزأ العرب والمسلمون من قرآنهم الآيات التي تناسبهم ليقولوا أنهم خير أمة أخرجت للناس، متناسين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإشاعة السلام والعدل وحرية الإنسان (خليفة الله في الأرض)!
بل إن اللاحقين، من أصحاب هذه الرسالات السماوية، تمذهبوا في مدارس واتجاهات تأويلية شتى، ابتعدت كثيرا عن أصل هذه الرسالات وخطابها الإنساني، وأسسوا مرجعيات متناقضة داخل كل مدرسة ومذهب تكفر إحداهما الأخرى، وتدعي أنها الفرقة الناجية، والباقي إلى جهنم وبئس المصير، مما أفقد هذا الخطاب بريقه الإنساني، وحال دونه ودون قيادة وعي الأمة الإنسانية لذاتها أو محاولة تأسيس خلافة الإنسان لخالقه العادل على الأرض.
ب- نداء الأرضإذا كان نداء السماء قد تلاشى على أيدي أصحاب الرسالات السماوية أنفسهم، كما ذكرنا آنفا، فإن نداء آخر انبعث من داخل الفكر الإنساني الأرضي، اتخذ مسارات شتى وظهر في أزمان مختلفة، وأماكن متفرقة من الكوكب الأرضي، وهو إن دلل على شيء فإنما يدلل على نوع من الوعي الذاتي لبعض مفكري وفلاسفة أبناء هذا الجنس لأمتهم الإنسانية الكبيرة.
ومع أن نداء السماء حصر فيما يسمى اليوم بمنطقة (الشرق الأوسط)، وفي فترة زمنية محدودة لا تزيد كثيرا عن قرن(قبل وبعد ميلاد المسيح)، فإن نداء الأرض انطلق قبل الديانات السماوية من وادي الرافدين والنيل وحضارات الهند والصين والرومان واليونان، واستمر متفاعلا مع نداءات السماء إلى يومنا هذا.
فأفكار كونفوسيوش الصيني الشرقي الأممية وجمهورية أفلاطون الأوربي الغربي العالمية تفاعلت مع نداءات السماء في نفس وفكر الفارابي العربي المسلم وتجسدت في مدينته الفاضلة، كما تفاعلت (يوتيبيا) توماس مور المسيحي مع أفكار ارلوند توينبي الملحد لتنتج دعوة الأخير للحكومة الكونية.
النداءات السماوية والأرضية تدل على شعور متفاوت بوحدة هذه الأمة الإنسانية، وتتخطى حواجز الزمان والمكان واللغة والعرق والدين، وإذا كانت كلها لم تستطع ترسيخ وحدة هذه الأمة الإنسانية، فإن مسيرة تطور هذه الأمة، وما وصلت إليه من منجزات علمية وتقنية تدفع شعور الوعي بالذات إلى الواجهة، فمع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي شهدت هذه الأمة طفرة نوعية لم تكن تخطر ببال أحد..
بالأمس القريب كان الرئيس الأمريكي (أوباما) يلقي خطابه الموجه إلى العالم الإسلامي من جامعة القاهرة، وكان المترجمون يترجمون خطابه إلى لغات العالم أجمع، وكانت مراكز الأبحاث والدراسات في العالم تعكف على دراسة ذلك الخطاب ومدلولاته وما يمكن أن يقرأ بين السطور من تأويلات..كانت الأمة الإنسانية تتابع أوباما حرفا حرفا، وكل واحد في بيته، يشرب الشاي أو القهوة بطريقته وأسلوبه..هل حدث مثل هذا في الماضي، وهل سيحدث ما هو أشمل من ذلك وأعمق أثرا؟
نحن نقول أجل..كل ما حولنا يشير إلى التقارب والتكامل المطلوب والمفروض علينا شئنا أم أبينا! وها هو رئيس أقوى وأكبر دولة في العالم (الرئيس الأمريكي) يضرب في خطابه الطروحات والأفكار التي أتى بها هنتنغتون في (صدام الحضارات) عرض الحائط، ويتحدث إلى أبناء الجنس البشري كافة كإخوة وأبناء عم، وكأنه يبشر بحقبة جديدة من وعي لذات الأمة الإنسانية التائهة!